فصل: تفسير الآيات (78- 82):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (78- 82):

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}
قوله: {مِنْهُمْ} أي: من اليهود. والأمي منسوب إلى الأمة الأمية، التي هي على أصل، ولادتها من أمهاتها، لم تتعلم الكتابة، ولا تحسن القراءة للمكتوب، ومنه حديث: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» وقال أبو عبيدة: إنما قيل لهم: أميون؛ لنزول الكتاب عليهم، كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب، فكأنه قال: ومنهم أهل الكتاب. وقيل: هم نصارى العرب. وقيل: هم قوم كانوا أهل كتاب فرفع كتابهم لذنوب ارتكبوها وقيل: هم: المجوس، وقيل: غير ذلك. والراجح الأوّل. ومعنى {لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِىَّ} أنه لا علم لهم به إلا ما هم عليه من الأماني التي يتمنونها، ويعللون بها أنفسهم. والأمانيّ: جمع أمنية، وهي ما يتمناه الإنسان لنفسه، فهؤلاء لا علم لهم بالكتاب الذي هو التوراة لما هم عليه من كونهم لا يكتبون، ولا يقرءون المكتوب. والاستثناء منقطع، أي: لكن الأمانيّ ثابتة لهم من كونهم مغفوراً لهم بما يدّعونه لأنفسهم من الأعمال الصالحة، أو بما لهم من السلف الصالح في اعتقادهم. وقيل الأمانيّ: الأكاذيب، كما سيأتي عن ابن عباس. ومنه قول عثمان بن عفان: ما تمنيت منذ أسلمت، أي: ما كذبت، حكاه عنه القرطبي في تفسيره، وقيل الأماني: التلاوة، ومنه قوله تعالى: {إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] أي: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته، أي: لا علم لهم إلا مجرد التلاوة من دون تفهم وتدبر، ومنه قول كعب بن مالك:
تمنى كتابَ اللهِ أوّلَ لَيْلةٍ ** وأخِرَه لاقى حِمامَ المقادر

وقال آخر:
تمنَّى كتابَ الله آخِرَ لَيْلةٍ ** تَمنِّي داودَ الزَّبُورَ على رِسْلَ

وقيل الأماني: التقدير. قال الجوهري: يقال مني له، أي قدّر، ومنه قول الشاعر:
لا تأمنَنَّ وإن أمسيتَ في حَرَم ** حتى تُلاقِي ما يَمْنِي لك المانِي

أي: يقدر لك المقدر. قال في الكشاف:والاشتقاق من مَنّي إذا قدّر؛ لأن المتمني يقدر في نفسه، ويجوّز ما يتمناه، وكذلك المختلق، والقارئ يقدران كلمة كذا بعد كذا. انتهى. و{إن} في قوله: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} نافية، أي: ما هم. والظن هو: التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد الغير الجازم. كذا في القاموس. أي: ما هم إلا يترددون بغير جزم، ولا يقين، وقيل الظن هنا بمعنى: الكذب. وقيل: هو: مجرد الحدس، لما ذكر الله سبحانه أهل العلم منهم بأنهم غير عاملين بل يحرّفون كلام الله من بعد ما عقلوه، وهم يعلمون، ذكر أهل الجهل منهم بأنهم يتكلمون على الأماني، ويعتمدون على الظن، الذي لا يقفون من تقليدهم على غيره، ولا يظفرون بسواه.
والويل: الهلاك.
وقال الفراء: الأصل في الويل: وي، أي: حزن كما تقول وي لفلان: أي: حزن له، فوصلته العرب باللام، قال الخليل: ولم نسمع على بنائه إلا ويح، وويس، وويه، وويك، وويب، وكله متقارب في المعنى، وقد فرّق بينها قوم، وهي: مصادر لم ينطق العرب بأفعالها، وجاز الابتداء به، وإن كان نكرة؛ لأن فيه معنى الدعاء. والكتابة معروفة، والمراد: أنهم يكتبون الكتاب المحرّف، ولا يبينون، ولا ينكرونه على فاعله. وقوله: {بِأَيْدِيهِمْ} تأكيد؛ لأن الكتابة لا تكون إلا باليد، فهو مثل قوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وقوله: {يَقُولُونَ بأفواههم} [آل عمران: 167] وقال ابن السراج: هو: كناية عن أنه من تلقائهم. دون أن ينزل عليهم. وفيه أنه قد دلّ على أنه من تلقائهم قوله: {يَكْتُبُونَ الكتاب} فإسناد الكتابة إليهم يفيد ذلك. والاشتراء: الاستبدال، وقد تقدّم الكلام عليه، ووصفه بالقلة لكونه فانياً لا ثواب فيه، أو لكونه حراماً لا تحلّ به البركة، فهؤلاء الكتبة لم يكتفوا بالتحريف، ولا بالكتابة لذلك المحرّف، حتى نادوا في المحافل بأنه من عند الله، لينالوا بهذه المعاصي المتكرّرة هذا الغرض النزير، والعوض الحقير. وقوله: {مِّمَّا يَكْسِبُونَ} قيل من الرشا ونحوها. وقيل من المعاصي. وكرر الويل؛ تغليظاً عليهم، وتعظيماً لفعلهم، وهتكاً لأستارهم.
{وَقَالُواْ} أي: اليهود {لَن تَمَسَّنَا النار} الآية.
وقد اختلف في سبب نزول الآية كما سيأتي بيانه. والمراد بقوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْدًا} الإنكار عليهم لما صدر منهم من هذه الدعوى الباطلة أنها لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة: أي: لم يتقدّم لكم مع الله عهداً بهذا، ولا أسلفتم من الأعمال الصالحة ما يصدق هذه الدعوى حتى يتعين الوفاء بذلك، وعدم إخلاف العهد، أي: إن اتخذتم عند الله عهداً، فلن يخلف الله عهده {أم تقولون على الله مالا تعلمون}. قال في الكشاف: وأم إما أن تكون معادلة بمعنى، أيّ الأمرين كائن على سبيل التقرير؛ لأن العلم واقع بكون أحدهما، ويجوز أن تكون منقطعة. انتهى. وهذا توبيخ لهم شديد. قال الرازي في تفسيره: العهد في هذا الموضع يجري مجرى الوعد، وإنما سمي خبره سبحانه عهداً؛ لأن خبره أوكد من العهود المؤكدة.
وقوله: {بلى} إثبات بعد النفي: أي بلى تمسكم، لا على الوجه الذي ذكرتم من كونه أياماً معدودة، والسيئة: المراد بها الجنس هنا، ومنه قوله تعالى: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] {مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] ثم أوضح سبحانه أن مجرد كسب السيئة لا يوجب الخلود في النار، بل لابد أن تكون سيئة محيطة به. قيل: هي الشرك، وقيل الكبيرة، وتفسيرها بالشرك أولى؛ لما ثبت في السنة تواتراً من خروج عصاة الموحدين من النار، ويؤيد ذلك كونها نازلة في اليهود، وإن كان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد قرأ نافع {خطياته} بالجمع، وقرأ الباقون بالإفراد، وقد تقدم تفسير الخلود.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، عن ابن عباس في قوله: {وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب} قال: لا يدرون ما فيه: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} قال: وهم يجحدون، نبوّتك بالظن.
وأخرج ابن جرير عنه قال: الأميون قوم لم يصدقوا رسولاً أرسله الله ولا كتاباً أنزله الله، فكتبوا كتاباً بأيديهم، ثم قالوا لقوم سفلة جهال: هذا من عند الله.
وقد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم، ثم سماهم أميين؛ لجحودهم كتب الله ورسله.
وأخرج ابن جرير، عن النخعي قال: منهم من لا يحسن أن يكتب.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ أَمَانِىَّ} قال: الأحاديث.
وأخرج ابن جرير عنه أنها الكذب. وكذا روى مثله عبد بن حميد، عن مجاهد، وزاد {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} قال: إلا يكذبون.
وأخرج النسائي، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب} قال: نزلت في أهل الكتاب.
وأخرج أحمد، والترمذي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وصححه عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره».
وأخرج ابن جرير من حديث عثمان مرفوعاً قال: «الويل جبل في النار».
وأخرج البزار، وابن مردويه، من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً: أنه حجرٌ في النار.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بأيديهم} قال: هم أحبار اليهود، وجدوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة أكحل، أعين، ربعة، جعد الشعر، حسن الوجه، فلما وجدوه في التوراة مَحَوهُ حسداً، وبغياً، فأتاهم نفر من قريش، فقالوا: تجدون في التوراة نبياً أمياً؟ فقالوا: نعم، نجده طويلاً، أزرق، سبط الشعر. فأنكرت قريش، وقالوا: ليس هذا منا.
وأخرج ابن جرير عنه في قوله: {ثَمَناً قَلِيلاً} قال: عرضاً من عرض الدنيا {فَوَيْلٌ لَّهُمْ} قال: فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب {وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} يقول: مما يأكلون به الناس السفلة، وغيرهم.
وقد ذكر صاحب الدرّ المنثور آثاراً عن جماعة من السلف أنهم كرهوا بيع المصاحف مستدلين بهذه الآية، ولادلالة فيها على ذلك، ثم ذكر اثارا عن جماعة منهم أنهم جوّزوا ذلك ولم يكرهوه.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والواحدي، عن ابن عباس؛ أن اليهود كانوا يقولون: مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوماً واحداً في النار، وإنما هي: سبعة أيام معدودة، ثم ينقطع العذاب، فأنزل الله في ذلك: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال: وجد أهل الكتاب مسيرة ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين، فقالوا: لن تعذب أهل النار إلا قدر أربعين، فإذا كان يوم القيامة ألجموا في النار، فساروا فيها حتى انتهوا إلى سقر، وفيها شجرة الزقوم إلى آخر يوم من الأيام المعدودة، فقال لهم خزنة النار: يا أعداء الله، زعمتم أنكم لن تعذبوا في النار إلا أياماً معدودة، فقد انقضى العدد وبقي الأمد، فيأخذون في الصعود يرهقون على وجوههم.
وأخرج ابن جرير عنه أن اليهود قالوا: لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة مدة عبادة العجل.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن عكرمة؛ قال: اجتمعت يهود يوماً، فخاصموا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات، أربعين يوماً، ثم يخلفنا فيها ناس، وأشاروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردّ يديه على رأسه: «كذبتم بل أنتم خالدون مخلدون فيها لا نخلفكم فيها، إن شاء الله أبداً، ففيهم نزلت هذه الآية: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار}».
وأخرج ابن جرير، عن زيد بن أسلم مرفوعاً نحوه.
وأخرج أحمد، والبخاري، والدارمي، والنسائي، من حديث أبي هريرة؛ أن النبي سأل اليهود في خيبر: «من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً، ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخسئوا، والله لا نخلفكم فيها أبداً».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْدًا} أي: موثقاً من الله بذلك أنه كما تقولون.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس أنه فسر العهد هنا بأنهم قالوا لا إله إلا الله، لم يشركوا به ولم يكفروا.
وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة في قوله: {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} قال: قال القوم: الكذب والباطل.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {بلى مَن كَسَبَ سَيّئَةً} قال: الشرك.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وعكرمة وقتادة مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة في قوله: {وأحاطت بِهِ خطيئته} قال: أحاط به شركه، وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم في قوله: {بلى مَن كَسَبَ سَيّئَةً} أي: من عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم حتى يحيط كفره بماله من حسنة {فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون * والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي: من آمن بما كفرتم به، وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة خالدين فيها.
وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة في قوله: {وأحاطت بِهِ خطيئته} قال: هي: الكبيرة الموجبة لأهلها النار.
وأخرج وكيع، وابن جرير، عن الحسن أنه قال: كل ما وعد الله عليه النار، فهو الخطيئة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن الربيع بن خيثم؛ قال: هو الذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب.
وأخرج مثله ابن جرير عن الأعمش.

.تفسير الآيات (83- 86):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}
قد تقدّم تفسير الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل.
وقال مكي: إن الميثاق الذي أخذه الله عليهم هنا هو: ما أخذه الله عليهم في حياتهم، على ألسن أنبيائهم، وهو قوله: {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} وعبادة الله إثبات توحيده، وتصديق رسله، والعمل بما أنزل في كتبه. قال سيبويه: إن قوله: {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} هو: جواب قسم، والمعنى، استحلفناهم، والله لا تعبدون إلا الله. وقيل: هو: إخبار في معنى الأمر. ويدل عليه قراءة أبيّ، وابن مسعود: {لا تعبدوا} على النهي، ويدل عليه أيضاً ما عطف عليه من قوله: {وقولوا وأقيموا وآتوا} وقال قطرب، والمبرّد: إن قوله: {لاَ تَعْبُدُونَ} جملة حالية، أي: أخذنا ميثاقهم موحدين أو غير معاندين. قال القرطبي: وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير، وحمزة والكسائي: {يعبدون} بالياء التحتية.
وقال الفراء، والزجاج وجماعة: إن معناه أخذنا ميثاقكم بأن لا تعبدوا إلا الله، وبأن تحسنوا بالوالدين، وبأن لا تسفكوا الدماء. ثم حذف أن، فارتفع الفعل لزوالها. قال المبرّد: هذا خطأ؛ لأن كل ما أضمر في العربية، فهو يعمل عمله مظهراً.
وقال القرطبي: ليس بخطأ بل هما وجهان صحيحان، وعليهما أنشد:
ألا أيُّهذا الزّاجِري أحْضُرَ الوَغَى ** وأنْ أشْهَدَ اللّذاتِ هل أنت مُخْلِدي

بالنصب لقوله أحضر، وبالرفع. والإحسان إلى الوالدين: معاشرتهما بالمعروف، والتواضع لهما، وامتثال أمرهما، وسائر ما أوجبه الله على الولد لوالديه من الحقوق. والقربى: مصدر كالرجعى، والعقبى، هم القرابة، والإحسان بهم: صلتهم، والقيام بما يحتاجون إليه بحسب الطاقة، وبقدر ما تبلغ إليه القدرة. واليتامى جمع يتيم، واليتيم في بني آدم من فقد أبوه. وفي سائر الحيوانات من فقدت أمه. وأصله الانفراد يقال: صبيّ يتيم، أي: منفرد من أبيه، والمساكين جمع مسكين، وهو: من أسكنته الحاجة وذللته، وهو أشدّ فقراً من الفقير عند أكثر أهل اللغة، وكثير من أهل الفقه.
وروى عن الشافعي أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين.
وقد ذكر أهل العلم لهذا البحث أدلة مستوفاة في مواطنها. ومعنى قوله: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حسنا} أي: قولوا لهم قولاً حسناً، فهو صفة مصدر محذوف، وهو: مصدر كبشرى. وقرأ حمزة، والكسائي: {حسناً} بفتح الحاء، والسين، وكذلك قرأ زيد بن ثابت، وابن مسعود. قال الأخفش هما بمعنى واحد، مثل البُخل، والبَخل، والرُّشد، والرَّشد، وحكى الأخفش أيضاً: {حسنى} بغير تنوين على فعلى. قال النحاس: وهذا لا يجوز في العربية، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف، واللام نحو الفضلى، والكبرى، والحسنى، وهذا قول سيبويه. وقرأ عيسى، بن عمر: {حُسُناً} بضمتين: والظاهر أن هذا القول الذي أمرهم الله به لا يختص بنوع معين، بل كل ما صدق عليه أنه حسن شرعاً كان من جملة ما يصدق عليه هذا الأمر، وقد قيل: إن ذلك هو: كلمة التوحيد.
وقيل: الصدق. وقيل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وقيل غير ذلك.
وقوله: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} قد تقدّم تفسيره، وهو: خطاب لبني إسرائيل، فالمراد: الصلاة التي كانوا يصلونها، والزكاة التي كانوا يخرجونها. قال ابن عطية: وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها، فتنزل النار على ما يُقبل، ولا ينزل على ما لا يُقبَل. وقوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} قيل الخطاب للحاضرين منهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم مثل سلفهم في ذلك، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب. وقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} منصوب على الاستثناء، ومنهم عبد الله بن سلام، وأصحابه. وقوله: {وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} في موضع النصب على الحال، والإعراض، والتولي بمعنى واحد، وقيل: التولي بالجسم، والإعراض بالقلب.
وقوله: {لاَ تَسْفِكُونَ} الكلام فيه كالكلام في لا تعبدون، وقد سبق. وقرأ طلحة بن مُصَرَّف، وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء، وهي لغة. وقرأ أبو نهيك بضم الياء، وتشديد الفاء، وفتح السين، والسفك: الصبّ، وقد تقدّم، والمراد أنه لا يفعل ذلك بعضهم ببعض، والدار: المنزل الذي فيه أبنية المقام، بخلاف منزل الارتحال.
وقال الخليل: كل موضع حلّه قوم، فهو دار لهم، وإن لم يكن فيه أبنية؛ وقيل سميت داراً؛ لدورها على سكانها، كما يسمى الحائط حائطاً؛ لإحاطته على ما يحويه. وقوله: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} من الإقرار: أي حصل منكم الاعتراف بهذا الميثاق المأخوذ عليكم، في حال شهادتكم على أنفسكم بذلك، قيل الشهادة هنا بالقلوب، وقيل هي بمعنى الحضور: أي: أنكم الآن تشهدون على أسلافكم بذلك. وكان الله سبحانه قد أخذ في التوراة على بني إسرائيل أن لا يقتل بعضهم بعضاً، ولا ينفيه، ولا يسترقه.
وقوله: {ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء} أي: أنتم هؤلاء المشاهدون الحاضرون تخالفون ما أخذه الله عليكم في التوراة، فتقتلون أنفسكم إلى آخر الآية. وقيل {إن هؤلاء} منصوب بإضمار أعني، ويمكن أن يقال منصوب بالذم، أو الاختصاص، أي: أذمّ، أو أخص.
وقال القتيبي: إن التقدير: يا هؤلاء قال النحاس: هذا خطأ على قول سيبويه لا يجوز.
وقال الزجاج هؤلاء بمعنى الذين، أي: ثم أنتم الذين تقتلون. وقيل هؤلاء مبتدأ، وأنتم خبره مقدّم، وقرأ الزهري: {تقتلون} مشدّداً، فمن جعل قوله: {أَنتُمْ هؤلاء} مبتدأ، وخبراً جعل قوله: {تَقْتُلُونَ} بياناً؛ لأن معنى قوله: {أَنتُمْ هؤلاء} أنهم على حالة كحالة أسلافهم من نقض الميثاق، ومن جعل هؤلاء منادى، أو منصوباً بما ذكرنا جعل الخبر تقتلون وما بعده. وقوله: {تظاهرون} بالتشديد، وأصله تتظاهرون أدغمت التاء في الظاء لقربها منها في المخرج، وهي: قراءة أهل مكة.
وقرأ أهل الكوفة: {تظاهرون} مخففاً بحذف التاء الثانية، لدلالة الأولى عليها. وأصل المظاهرة المعاونة، مشتقة من الظهر؛ لأن بعضهم يقوي بعضاً، فيكون له كالظهر، ومنه قول الشاعر:
تظاهرتُم من كل أوب ووجهة ** على واحد لا زلْتُمْ قِرنَ واحدِ

ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ الكافر على رَبّهِ ظَهِيراً} [الفرقان: 55] وقوله: {وَالْمَلَئِكَةُ بَعْدَ ذلك ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]. و{أسارى} حال. قال أبو عبيد، وكان أبو عمرو يقول: ما صار في أيديهم، فهو أسارى، وما جاء مستأسراً، فهو الأسرى. ولا يعرف أهل اللغة ما قال أبو عمرو، وإنما هذا كما تقول سكارى، وسكرى.
وقد قرأ حمزة: {أسرى}. وقرأ الباقون: {أسارى} والأسرى جمع أسير، كالقتلى جمع قتيل، والجرحى جمع جريح. قال أبو حاتم: ولا يجوز أسارى.
وقال الزجاج: يقال أسارى كما يقال سكارى.
وقال ابن فارس: يقال في جمع أسير: أسرى وأسارى. انتهى. فالعجب من أبي حاتم حيث ينكر ما ثبت في التنزيل. وقرأ به الجمهور، والأسير مشتق من السير، وهو: القيد الذي يشدّ به المحمل، فسمي أسيراً؛ لأنه يشدّ وثاقه، والعرب تقول: قد أسَرَقتْبه: أي: شدّه، ثم سمي كل أخيذ أسيراً، وإن لم يؤخذ. وقوله: {تفادوهم} جواب الشرط، وهي: قراءة حمزة، ونافع، والكسائي، وقرأ الباقون: {تفدوهم}. والفداء: هو: ما يؤخد من الأسير ليفكّ به أسره، يقال: فداه، وفاداه: إذا أعطاه فداءه. قال الشاعر:
قفى فادى أسيرك إن قومي ** وقومك ما أرى لهم اجتماعاً

وقوله: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} الضمير للشأن وقيل مبهم تفسره الجملة التي بعده، وزعم الفراء أن هذا الضمير عماد، واعترض عليه بأن العماد لا يكون في أوّل الكلام. و{إِخْرَاجُهُمْ} مرتفع بقوله: {مُحَرَّمٌ} سادّ مسدّ الخبر، وقيل بل مرتفع بالابتداء، ومحرّم خبره. قال المفسرون: كان الله سبحانه قد أخذ على بني إسرائيل أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أسراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، فوبخهم الله على ذلك. بقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}. والخزي: الهوان. قال الجوهري: والخزي بالكسر يخزي خزياً: إذا ذلّ وهان، وقد وقع هذا الجزاء الذي وعد الله به الملاعين اليهود موفراً، فصاروا في خزي عظيم، بما ألصق بهم من الذلّ، والمهانة بالقتل، والأسر، وضرب الجزية، والجلاء، وإنما ردهم الله يوم القيامة إلى أشدّ العذاب؛ لأنهم جاءوا بذنب شديد، ومعصية فظيعة.
وقد قرأ الجمهور {يردّون} بالياء التحتية. وقرأ الحسن بالفوقية على الخطاب.
وقد تقدّم تفسير قوله: {وَمَا الله بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ} وكذلك تفسير {أُولَئِكَ الذين اشتروا}
وقوله: {فَلاَ يُخَفَّفُ} إخبار من الله سبحانه بأن اليهود لا يزالون في عذاب موفر لازم لهم بالجزية، والصغار، والذلة والمهانة، فلا يخفف عنهم ذلك أبداً ما داموا، ولا يوجد لهم ناصر يدفع عنهم، ولا يثبت لهم نصر في أنفسهم على عدّوهم.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاق بَنِى إِسْرءيلَ} قال يؤنبهم أي ميثاقكم.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حسنا} قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وروى البيهقي في الشعب عن عليّ في قوله: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ} قال: يعني الناس كلهم، ومثله روى عبد بن حميد، وابن جرير، عن عطاء.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} قال: أي: تركتم ذلك كله.
وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: معناه أعرضتم عن طاعتي إلا قليلاً منكم، وهم: الذين اخترتهم لطاعتي.
وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية في قوله: {لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ} لا يقتل بعضكم بعضاً {وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مّن دياركم} لا يخرج بعضكم بعضاً من الديار {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} بهذا الميثاق {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} وأنتم شهود.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} أن هذا حق من ميثاقي عليكم {ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} أي: أهل الشرك حتى تسفكوا دماءهم معهم {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم مّن ديارهم} قال: تخرجونهم من ديارهم معهم {تظاهرون علَيْهِم بالإثم والعدوان} فكانوا إذا كان بين الأوس، والخزرج حرب خرجت معهم بنو قينقاع مع الخزرج، والنضير، وقريظة مع الأوس، وظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى يسافكوا دماءهم، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة {وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى تفادوهم} وقد عرفتم أن ذلك عليكم في دينكم {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ} في كتابكم لإخراجهم {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} أتفادونهم مؤمنين بذلك، وتخرجونهم كفراً بذلك.
وأخرج ابن جرير، عن قتادة في قوله: {أُولَئِكَ الذين اشتروا الحياة الدنيا بالأخرة} قال: استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة.